1ـ أولئك الذين يحيون اللهو والتحلل والمجون في سائر الشهور،
فإذا حان شهر رمضان، خلصوا إلى الصيام والمسجد والعبادة، وتمسَّحوا بأسارير الصالحين
، ومظاهر المتقين... فإذا انسلخ الشهر، سلخوا مسوحهم وروائهم،
وتكشّفوا عن واقعهم السابق، دون أنْ يهرّبوا معه تأثراً واحداً من نبضات الصيام،
وهم يرددون مع منشدهم:
رمضان ولىّ، هاتها يا ساقي***مشتاقة تهفو إلى مشتاق
فكأن للعبادة موسماً محدوداً، كبقية المواسم الخاصة، فعلى الإنسان فيه أنْ يفرغ
لمتطلباته، وله ـ في غيره ـ أنْ يعاود حياته السابقة، فيكرع ويعوم، كيفما تشاء نزواته
، بلا قيود ولا حدود... ودون أنْ يكون بين العبادة والنزوات تناقصاً وتدافعاً، فالصيام ـ
في رأيهم ـ يعيش على مائدة الخمر والقمار، وإلى جانب الخيانة والقذف والاغتصاب..
. كما نجد في القاهرة، يقيمون المسجد إلى جانب الملهى، ويخرج المصلي
من هذا ليدخل في ذاك، لتعبير عن الخطأ في وعي مفهوم فرائض الإسلام...
2ـ أولئك الذين يدمنون الصيام والتلاوة والدعاء، في أيام رمضان، ويعيشون
الهزل واللهو، والسهرات العاطلة، والتسليات البريئة وغير البريئة، عبر ليالي هذا
الشهر العظيم، دلالة على نشاط التألبات الخيرة والشريرة معاً في قرارهم...
فهم يستجيبون لصيحات الخير تارة، ونعرات الشر أخرى، ويرفهون عن
هذه نهاراً وعن تلك ليلاً...
3ـ أولئك الذين يصومون بالإمساك عن المفطرات العشر، سحابة النهار،
فإذ كان وقت الإفطار، اندفع يعبّ من تلك اللذات، التي يحسب أنّه حُرم
منها فيما ذهب من الوقت، فيلتهم بجشع أعمى، كلما يجد، لينتقم لبطنه وغريزته...
4 -أولئك الذين يستقبلون رمضان، بتهلل الأطفال، شوقاً إلى المزيد من
المطاعم الشهية، ظانين أنّهم في ضيافة الله، وعلى مائدته، فلهم أنْ ينعموا
بأكبر قسط ممكن من المتاع، دون أنْ تكون عليهم رقابة، أو ينتظرهم حساب،
وهل يحاسب الله ضيوفه على الشبع والارتواء؟.. فلذلك يبدعون في تنويع
المأكولات، وتشكيل الفواكه والمعلبات، لا لينفقوها في سبيل الله،
أو يواسوا بها المعدمين من أرحامهم وجيرانهم، كلا.. إنّما ليلتهموها بإعجاز..
5ـ أولئك الذين يصومون، ويوشحون أطراف الليل والنهار.
بالتلاوة والصلوات
والأدعية والأذكار.. ولكن يحسبون: أنّهم ينجزون أعمالاً ضخمة هائلة، ترهقهم،
وتبهض أعصابهم الرقيقة الوانية.. فتعتبر لأنفسهم دالةٌ على الله وحقاً على النّاس،
فيكون على الله أنْ يحقق كلما يرومون في الدنيا، ويسلّم إليهم مفاتيح الجنّة
مجموعة في الآخرة.. أوليسوا هم الذين يعبدون الله حق عبادته. أوليسوا
هم الربَّيون الذين أخلصوا أنفسهم لله، فعبدوه كما لم يعبده سواهم؟.. ومن أجدر
منهم بالجنّة، وهم الذين لا يمدون يداً إلى أعمال الدنيا، انشغالاً بالآخرة، ولا يفترون
عن عبادة الله؟؟.. وعلى النّاس أن يسكنوهم أحداقهم، ويوفروا لهم أهنأ الحياة..
ومن أولى بالتكريم، وهم الذين يعمرون الليل بذكر الله والصلاة، فيما يحييه الآخرون
باللّهو والفساد، ويقضون الأيام بالصيام بينما يترفه الآخرون في الإفطار؟؟..
. فإذا خرج واحدهم إلى النّاس. عكر أساريره. وعقد جبينه، وقابلهم كالحاً مربَّداً،
تقدح نظراته الشزر، بالتفوّق والإزدراء، ولهم الويل إذا لم يستقبلوه بأحر الإحتفاء
والإجلال، ويستحقون منه التنكيل والتنديد، ولا شكّ أنَّ ذلك وحده يكشف عن
خلل في نطفهم، فلا يأثم من يتطاول عليهم بالقذف والجرح الفاجر..
وكأنَّ هؤلاء لم يقرءوا قوله تعالى: ((قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ))
و ((مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها))
و ((إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها)) و
((وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ))
فالذي يفعل الخير، إنّما يوفر على نفسه المعروف، ويدرأ عنها العذاب،
وحتى الذي يسديه إلى الآخرين، إنّما يخدم به نفسه عن أولئك، فليس لأحد فضلاً
على إنسان مهما عمل خيراً، وليس لمخلوق دالة على الله، وإنْ فاق الأنبياء والنبيين
بل لله الفضل والمن، على الصالحين إذ هداهم إلى مناهج توفر عليهم سيادة الدنيا
وسعادة الآخرة، ومن ذا كان يهتدي إلى برامج السعادة، لولا أنْ هداه الله؟.
وهذه الدنيا تواصل رحلتها المضنية الطويلة، بحثاً عن السعادة، وترخص المجازر
والأموال، ثم لا تجدها ولن تجدها إلاّ إذا فائت إلى هداية الله، أو ليس الله تعالى
هو الذي يقول: - ((يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ
عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمانِ)) فالمنُّ لله علينا إذ أنقذنا بهديه..
وأمّا الله تعالى فهو أغنى عنا وعن كل ما نعمل، وإنّما يروم الله من الفرائض،
أنْ تصلح عباده، وتهديهم إلى الحسنات، كما يهتف بذلك القرآن الحكيم:
((لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ)) فلا يغنم الله شيئاً
إن تسامى النّاس ملائكة قديسين، ولا يبخس إن كفر العالمون، وأعلنوا عليه
الحرب الشعواء، وليس له أي مأرب في أن يضحي هذا أو يصلي ويصوم،
ولكن يريد أنْ يصهر العباد، كي يطهرهم ويذهب عنهم رجس الشيطان،
فيؤدون حقوق الله وحقوقهم وحقوق النّاس، ويعيشوا وادعين متعاونين..
ويهنئوا في حياتهم الخالدة بالنّعيم المثالي الطويل.. ولا يتناقضوا فيعكِّروا
حياتهم.. ويتقاذفوا في الحطيم اللاّهب الظروس.. فيلفهم الشقاء والويل...
أما أنْ تكون لإنسان دالة على الله، لإكثاره المعروف،
فهو نتاج ارتداد الفكر الصادق، وانخفاض وعي الإسلام في العقول