الكاتب سليمان السيبان
إسلام الملكة بلقيس وشكل حكومتها وعرشها
كانت الملكة بلقيس اليمنية الحميرية وقومها يعبدون الشمس من دون الله ، ثم أسلمت للة رب العالمين قبل القرون العديدة من بعثة نبينا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين . وقص الله تعالى علينا بسورة النمل من محاورة النبي سليمان وبلقيس وقومها ما عرفنا به أن حكومه تلك المرأة العربية اليمنية كانت حكومة شورية ، فإنه لما جاءها كتاب النبي سليمان مهدداً لها في الخضوع لسلطانه بقولة ( ألا تعلوا عليُ وأتوني مسلمين ) لم تستبد بالجواب علية دون قومها ، بل جمعت الملأ من شعبها وأهل مشورتها قائلة لهم ( يأيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة امراً حتى تشهدون ) فعبرت عن المشورة بالفتوى بعد أن قالت لهم ( إني ألقي إليٌ كتاب كريم ، إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ) ولما شاهد الملأ من شعبها إخلاصها وأنها لا تستبد بالأمر دونهم كان من ذلك الشعب الكريم المخلص تشجيعها بقولهم ( نحن أولو قوة وأولو بأس شديد ) ثم فوضوا الأمر اليها مع وثوقهم بإخلاصها وقوة إدراكها وسداد رأيها ، فقالوا ( والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين ) فلما سمعت تفويضهم الأمر اليها لم تشأ أن تطرح بذلك الشعب المخلص في مهاوي لاتعلم مغبتها ، بل قالت لهم مع علمها بمفاسد الاستعمار الأجنبي واستعباد غالب الملوك الأقوياء للضعفاء بعد الحروب واختلاف الأهواء: ( إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة ) ، وعمدت الى الحكمة والتؤدة وإتيان الأمور من أبوابها السياسية الحكيمة ، وأصبحت لهم الرأي السديد عندها بقولها : وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بما يرجع المرسلون ) ، وكانت من هديتها الية خمسة من السيوف اليمنية : ذو الفقار وذو المنون ومحذور ورسوب والصمصامة كما في شرح ابن زيدون وغيرة .
ثم لما نظرت بنظرها الثاقب وفكرها الوقاد ، وتحققت ان سليمان نبي مرسل ومصلح عظيم لم تأخذها العزة بالإثم ولا صرعتها سكرة الملك فكابرت الحق وعاندتة ، والحق هو الحق بالأتباع ، والواجب الخضوع له ، بل أنابت واستسلمت وقالت : ( رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين ) .
عرشها العظيم
حكى الله تعالى في سورة النمل قول الهدهد للنبي سليمان علية السلام : ( أحطت بما لم تحط به وجئتك من سباء بنبإ يقين . إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم ). وفي فتح القدير الجامع بين فني الدراية والرواية من علم التفسير : أي سرير عظيم . ووصفه بالعظيم لأنه كما قيل من ذهب طوله ثمانون ذراعاً وعرضة أربعون ذراعاً وارتفاعه في السماء ثلاثون ذراعاً مكللاً بالدر والياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر .
وفي شمس العلوم لنشوان الحميري : العرش السرير ، والعرش أيضاً القصر المعروش على دعائم من حجارة ،وكلا العرشين كانا في مأرب لبلقيس ، وباقي دعائم قصرها معروفة في مأرب قد انكبست ، وبقي منها في الطول على هيئة أطول الرماح لو اجتمع جيل من الناس على قلع واحدة منها لما قدروا ، يحتضن الواحدة منها رجلان بالغان ثم يمدان باعيهما فلا تلتقي أيديهما عليهما . وقال أسعد تبع الأوسط الكامل من قصيدة طويلة في ذلك :
ولدتني من الملوك ملوك كل قيل متوج صنديد
ونساء متوجات كبلقيس وشمس ومن لميس جدودي
ملكتهم بلقيس تسعين عاماً بأولى قوة وبأس شديد
ولها جنتان أنشأهما الله ورزق من سدها المسدود
عرشها شرجع ثمانون باعاً كللته بجوهر وفريد
وبدر قد قيدته وياقوت وبالتبر أيما تقييد
فلو أن الخلود دام لحىَ باحتيال أو قوة أو عديد
أو بملك لما هلكنا وكنا من جميع الأنام أهل الخلود
وقال في ذلك :
ولقد بنت لي عمتي في مأرب عرشا على كرسي ملك متلد
عمرت به تسعين عاماً دوخت أرض العراق إلى مفازة صيهد
يغدوا إليها ألف ألف كلهم تبع لها يتعاقبون من الغد
أولو مشورتها
قال في شمس العلوم : روي عن عبدالله بن عباس قال : أولو مشورتها ألف قيل تحت كل قيل ألف مقاتل .
وقال قتادة : كانت بلقيس في بيت مملكة ، وكانت في مأرب على ثلاثة أيام من صنعاء ، وكان أولو مشورتها ثلاثمائة وأثنى عشر قيلا ، كل قيل منهم على عشرة آلاف رجل . وكذلك قال ابن جرير صاحب المذيل ، وقال مجاهد كان مع بلقيس ملكة سباء غثنا عشر ألف قيل مع كل قيل مائة ألف مقاتل .
وبلقيس اسمان جعل اسماً واحداً مثل حضرموت وبعلبك ، وذلك أن بلقيس لما ملكت الملك بعد أبيها الهد هاد قال بعض حمير لبعض : ما سرة هذه الملكة من سيرة ابيها ؟ فقالوا : بلقيس ، أى بالقياس فسميت بلقيس .
ولما وفدت على سليمان قال لها : لابد لكل امرأة مسلمة من زوج ، فقالت : إن كان لابد منه فذو تبع ، نعني الملك تبع الأصغر فتزوجها ، فولدت له أسنع وأنوف ذا همدان الأكبر وشمساً الصغرى أم تبع القرن وهو ذو القرنين ، ومن ولدها الثوريون، وهم ولد ثور وهو ناعط بن سفيان .
سباء وحمير والتبابعة
سباء : اسم عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن هود النبي علية السلام وهو أول من سبى في حروبة من ملوك العرب ، وأول من ادخل السبايا إلى اليمن ، وفية يقول علقمة بن ذي جدن:
ومنا الذي لم يسب قبل سبائه سباء ومن دان الملوك مراراً
وشرع في بناء سد مأرب على مسافة دون ساعتين غرباً من مأرب ، ومات قبل إكماله فأكمله من بعده من الملوك . ومن أولاده قبيلة سبأ ، ثم سميت الأرض التى سكنوها في مشارق صنعاء أرض سباء وعاصمتها مأرب. وحمير ثلاثة : الأكبر وهو العرنجج واسمه عبد شمس المذكور ، وحمير الأصغر وهو زرعه بن سباء الأصغر بن كعب بن سهل بن عريب بن زهير بن ايمن بن الهميسع بن حمير الأكبر المذكور ، والثالث حمير الأدنى وهو حمير بن الغوث بن اسعد بن عوف بن عدي بن مالك بن سدد ابن حمير الأصغر المذكور .
والتبابعة بباءين موحدتين ، وهم في حمير كالأكاسرة في الفرس والقياصرة في الروم ، ولا يسمى الواحد منهم تبعاً إلا إذا دانت له جميع حمير وحضرموت وسباء ، وهم سبعون تبعاً . قال النعمان بن بشير :
لنا من نبي قحطان سبعون تبعاً أطاعت لها بالخرج منه الأعاجم
وقال لبيد بن بربيعة الكلابي
تبابعه سبعون من قبل تبع تولوا جميعا أزهراً بعد أزهر
وقال صاحب شمس العلوم ك
تبابع الملاك من حمير عدتهم سبعون لا تقصر
من ولد الرائش جمهورهم من حمير الأصغر ما حمير
أسعد تبع الكامل
قال علماء التفسير في الكلام على قول الله تعالى في سورة الدخان ( أهم خير أم قوم تبع )وعلى قوله تعالى في سورة ق ( وقوم تبع كل كذب الرسل ) ، أي اهم خير في القوة والمنعة ، أم قوم تبع ألحميري الذي دار في الدنيا بجيوشه وغلب أهلها وقهرهم واسمه أسعد أبو كرب .
وقال قتادة : ذم الله قوم تبع ولم يذمه ، وقال الزجاج : جاء في التفسير ان تبعاً كان ملكاً مؤمناً وان قومه كانوا كافرين .
وفي شمس العلوم : هو اسع تبع الوسط الكامل بن ملكي كرب ابن تبع الأكبر ابن تبع الأقرن وكان مؤمناً، ويقال انه كان نبياً مرسلاً الى نفسه لأن الله ذكره عند ذكر الأنبياء فقال : ( وقوم تبع كل كذب الرسل ) ولم يعلم انه أرسل الى قوم تبع رسول غيره ، وهو الذي نهى النبى علية السلام عن سبٌه لأنه آمن به قبل ظهورة بسبعمائة عام ، وليس ذلك بوحي من الله عز وجل .
وفي الحديث " لا تسبوا تبعاً فإنه قد أسلم " وفية " لا تسبوا تبعاً فإنه أول من كسا الكعبة " وأخرج أحمد بن حنبل والترمذي من حديث أبي هريرة مرفوعاً " رحم الله حمير أفواههم سلام وأيدهم طعام وهم أهل أمن وإيمان " . ومن شعر أسع تبع الكامل من قصيدة :
وكسونا البيت الحرام من الصعب ملاء منضداً وبروداً
وأقمنا به من الشهر تسعاً وجعلنا لبابه اقليدا
ونحرنا سبعين من البد ن نرى الناس حولهن ركوداً
والقصيدة التى أولها :
شهدت على أحمد أنه رسول من الله باري النسيم
وولادة أسعد تبع الكامل في خمر على مسافة يومين شمالاً من صنعاء ، ودفنه في قرية غيمان من قري بني بهلول على مسافة ساعات ساعات جنوباً إلى شرق الشرق من صنعاء كما هو الأشهر والمحفوظ عن علماء عصرنا .
ومن أبلغ الشعر اليمني الإسلامي وأنفعه في الوعظ والتذكير وذكر الجموع من التبابعه وملوك حمير وغيرهم قصيدة الشيخ نشوان ألحميري المطبوعة وهي إلى مائه وستة و ثلاثين بيتاً مطلعها .
الأمر جد وهو غير مزاح فاعمل لنفسك صالحا يا صاح
وفيها يقول :
وملوك حمير ألف ملك أصبحوا في الترب رهن ضرائح وصفاح
آثارهم في الأرض تخبرنا بهم والكتب من سير تقص صحاح
وفي الكلام علماء التفسير على قوله تعالى في سورة سباء ( لقد كان لسبإ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال . كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور ) وعلى غيرها من الآيات القرآنية في ذلك ما يشفي ويدل على إن دولة سباء كانت عظيمة الثروة قوية السلطان مهيبة الجانب ، وان قومهما كما حكى الله عنهم أولا قوة وبأس شديد .
وفيما يوجد حتى الأن من الآثار والكتابة على الصخور بالخط المسند ومن الصور والتماثيل العديدة ما يدل على مبلغ مدينة تلك الدولة اليمنية وحضارتها القديمة وتمصير الأمصار وعمارة المدائن واتخاذ المصانع وإشادة القصور ، وناهيك ببناء قصور بينون وصرواح وظفار وغمدان وغيمان وناعط وغيرها من ناطحات السحاب بشكل يلفت الأنظار وبالعرش العظيم بنص القرآن ، وسد مأرب الذي طبقت شهرته الآفاق
وبالبقعة الخضراء من أرض يحصب ثمانون سداً تقذف الماء سائلا
فهذه لمحة الأنباء ناظرة لما أتى في سباء بالذكر والسنن
وإن فتوى الملا بلقيس توضح أن الأمر بينهم شورى بلا أحن
فثبت الله كل المسلمين على تأييد دين عليم السر والعلن
وكف عنهم شرور الكافرين و مكر الماكرين دعاة الكفر والفتن
آمين آمين يا من لاشريك له في ملكه يا عظيم المن بالمنن
